أمام الشر الذي يجتاح العالم، يحاول الإنسان المعاصر أنّ يبحث عن أعذار...وهنا تأخذ العلوم الإنسانَّية على عاتقها تفسير كلَّ شيء بتأثيرات خارجة عن الإنسان: المثالية، الطبقيَّة، وسوء التربية، والعقد النفسية، والطفولة التاعسة، والضيق النفسي... كلُّ هذا صحيح ويؤثّر في سلوكنا بعض الشيء. لكن إذا أضفينا على تلك الأمور صيغة المطلقيَّة، قضينا بها على النفس.
إنّ ما يُهدَّد الإنسان اعتباره، على حد قول دوستويفسكي، أحد مفاتيح البيانو وحسب. وهو خطر يجب على الإنسان أنّ يقف منه موقف الدفاع عن النفس، لأنه يحطُّ من كرامته، إذ من الأفضل أن يكون في نظر الناس مسؤولاً عن الشر الذي يفعله من أنّ يكون حجراً على رقعة شطرنج،
وتُفسَّر أفعاله إنطلاقاً من عوامل خارجية عن إرادته. إنَّ من يعترف بأخطائه يُعلن كرامته في العمق قائلاً: أنا كائنٌ حرٌّ ولا أحد يستطيع أنّ ينزع مسؤولية أفعالي، حتَّى ولو نتجت عن تضافر عدَّة ظروف ومؤثرات.
إنّ لم أكن مسؤولاً عن الشر الذي أقترفه، فكيف أكون الفاعل الحقيقي للخير الذي آتيه؟ إنّ لم تكن زلَّتي ملكاً لي، فهل يكون حبِّي ملكاً لي؟ الشرُّ ينتجُ عن حرية فاسدة، ولكنَّها قائمة، وأملنا الوحيد في أنَّها ترمَّمُ يوماً ما.
إنّ كانت حريَّتنا مطلقة فلأنَّها متجذّرة في المطلق الذي تقوم عليه وحده وتثبت. لولا الله لكانت حريَّتنا وهماً وفراغاً لا يقابلها شيء، وكنَّا على درجة كبرى من السخافة، وما كانت مركزاً لعلاقة... الحرّ مسؤول وقادر على أنّ يجيب. عندما خلقني الله، دعاني وناداني، وفي الوقت عينه، جعلني حرّاً قادراً على أنّ أُجيب. لولا النداء، لما كان الجواب. الحريَّة تحاور.
ولحسن الحظ، يستطيع الإنسان أنّ يقرَّ أمام الله،
أمام الحبّ القادر على أنّ يخلق له مرَّة أخرى المستقبل ووعوده...
يسمي الإيمان المسيحي خطيئةً ذاك الشرّ الذي يجعلني مسؤولاً عنه أمام الله. بيد أنّ تلك اللفظة لا تعني شيئاً لغير المؤمن، فيرتكب مغالط وأخطاء. وحده المؤمن يستطيع أنّ يتحدث عن الخطيئة، لأنّه يُدرك أنّ خطاياه تبلغ قلب الله وأنّ الأثم الذي نرتكبه يجرح في النهاية قلب الله.
هذا هو الإنقلاب الذي أحدثهالوحي المسيحي: من الواضح أنّ الله هو أُولى ضحايا الخطيئة في عالم متحطّم يشكو الضغير فيه ظلماً والبريء جوراً. وبالتالي فهو يتألم بسببها. وفهمنا العظمَة الحقيقيّة التي أعطانا إياها، نحن معشر المخلوقات الحقيرة الصائرة إلى الموت. فكان لنا عليه سلطان وجعلناه يتألّم حتى الموت، وأرتبط بنا... لأنه يحبّنا حبّاً جنونياً.
الخطيئة تتسرَّبُ إلى كلِّ مكان على مثال غبار الجفاف في البلدان الحارّة. ولا نتشائم إنّ رأيناها تعمل في سائر مشاريعنا: أنّها اللون لكلٍّ من أعمالِنا. كما أنّ الحنطة والزؤان يتداخلان، كذلك يتداخل الخير والشر كلما أردنا أنّ نعمل. أجمل عمل محبة يحمل بعضاً من أنانيّة، وأجمل أفعالنا سعيٌ خفيٌّ إلى ذواتنا. في إنطلاقاتنا الملأى بالرحمة، نحمل دوماً مرآةً نرى ذواتنا فيها. في حين نظنُّ أننا على حبّ. على الإنسان ألاَّ ينظر إلى الآخر فينسى ذاته تماماً فيجيب بلا حساب ولا استرداد. وعلينا أنّ نكزن ينبوعاً فيَّاضاً لا يميل إلى شخص دون آخر، ولا يهتمُّ بما يفعل الآخر بالماء الذي يأخذه. بيد أنّ الالتباس ينحر حياتنا، كما ينحر السوس التفاحة.
المهم هو أنّ نعرف في حياتنا أفعالاً تلامس الحبَّ الصافي فتعوِّضَّ عمّا أصابنا من انحرافات وتكون بمثابة زهرة تتفتّح لتبشِّر بالربيع الآتي قريباً. إنَّ تلك الانتصارات لهنيهاتُ نِعَم ونيران مرح من النور تبدِّل في يومياتنا وتدعونا إلى الاعتقاد بأنَّ الشمس سوف تبدِّد ظلمتنا. وُلد الإنسان في بلاد الله ويتذكر أصله